الأربعاء، 21 مارس 2012

بعد تـــــــــأمُّــل


بعد تـــــــــأمُّــل


استجمع شادي قواه عصر أحد الأيام, نهض من مقعده مُصدراً صريراً كصرير باب منزله المتهالك, توجه قاطعاً الرواق المعتم إلى غرفةٍ عارية السقف, كشف عن كنزه الثمين, وضَّبه ونظّفه, حقنه بالذهب الأسود, ثم استجمع قواه ثانية, ليس ليقوم هو, بل ليجعل المولد يقوم بدوره في رفد أوردة المنزل بما يسمى "بالكهرباء" .
مسكين شادي, فالمولد جَعجَع دون طحين يظهر, إذن المولد تالف ولا كهرباء .

جيد.. لا بأس.. وتمتمات غير مفهومة صاحبت خطواته المتثاقلة التي انتهت عند سريره القديم, استلقى على ظهره, وجعل يخاطب مروحة السقف المغبرة التي لم يحن موعدها بعد, فالبرد لا يزال طاغياً على الأجواء, ثلاثةُ أيادٍ يحركها قلبٌ ساحرٌ شرير فلا يتراءى له سوى دائرة من الجحيم, هكذا رآها, ومع ذلك جلس يخاطبها, ربما لم يجد أودع منها في عالمه ذاك.
أتذكرين يوم كنا في هذه الغرفة ثلاثة ؟
كانت أياماً حلوة.
آه يا مروحتي كم يوماً مرّ وأخي حمزة قد غادرنا للأبد إلى روضة وارفة الظلال, لا يحتاج فيها إلى الكهرباء اللعينة .
قطعت جعجعةُ مولد جاره أبي قاسم حواره ذي الشجون, دار دورتين يتيمتين ليتوقف المولد بعدها ربما تضامناً مع مولدات جيرانه.
تباً لهذه الحال,هل سأقضي بقية عمري أضربُ أخماساً في أسداس؟
إلى متى أفكر في الكهرباء والماء والدواء؟
أخي قتلوه.
أبي تركنا منذ زمن.
أمي .. آه .. نعم أمي, أتذَكر بسماتها المتألقة قبل أن يصرعها المرض, رحمها الله .
قال ذلك وهو يتأمل جرة الماء الخزفية مكسورة الطرف بعد أن أشاح وجهه عن مروحة السقف .
لوهلةٍ ظنها تراقبه, دقق النظر أكثر ..
نملة قاتمة السواد, شاخصة ببصرها محدقة, ليس فيه ولكن في الجرة, قطع ذلك الشخوص دبيب أرجلها الواثقة متوجهة نحو الهدف, صعدت ثم انزلقت.


لم يتعب شادي وهو يتابع بنظراته النملة التي لم تكلّ رغم المحاولات المتكررة.
في نهاية المطاف وصلت النملة لبغيتها, رغم أنها غرقت في تهلُكَة الجرة .
أما شادي فقد قرر أن يتوقف عن مخاطبة مروحة السقف وتأمل السواكن من الأشياء, فقد تعلم في هذا اليوم ما هو أفضل من ذلك بكثير .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق